جزاك الله خيرا
والفراسة ثلاثة أنواع:
إيمانية : … وسببها نور يقذفه اللَّـه في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل،… والصادق والكاذب. وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضاده، يثب على القلب وُثـُوبَ الأسد على الفريسة،… وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا، فهو أَحَدُّ فراسة،… وقال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرماني حادَّ الفراسة لا يخطئ، ويقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بالمراقبة، وظاهره باتباع السنة، وتعوّد أكل الحلال، لم تخطئ فراسته… وقال ابن مسعود (
- رضي الله عنه- أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا }( 9) ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْـرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}( 10) ، وأبو بكر في عمر - رضي اللَّـه عنهما- حيث استخلفه، وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون، حين قالت: {قُرَّتُ عَيْـنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}( 11).
وكان الصديق - رضي الله عنه- أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيء: (أظنه كذا) ، إلا كان كما قال، ويكفي في فراسته موافقتُه رَبَّه في المواضع المعروفة…
وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة و النور، اللَّذَيْنِ يهبهما اللَّـه لمن يشاء من عباده ؛ فيحيا القلب بذلك، ويستنير؛ فلا تكاد فراسته تخطئ. قال اللَّـه تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّـلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}( 12)..
الفراسة الثانية: فراسة الرياضة، والجوع، والسهر، والتخلي. فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بِحَسَبِ تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان ولا على ولاية، وكثير من الجهال يغتر بها، وللرهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي، من جنس فراسة الولاة، وأصحاب تعبير الرؤيا، والأطباء، ونحوهم. وللأطباء فراسة معروفة، مِن حِذْقـهم في صناعتهم، ومَن أحب الوقوف عليها، فليطالع تاريخهم، وأخبارهم. وقريبٌ من نصف الطب فراسة صادقة، يقترن بها تجربة…
الفراسة الثالثة : الفراسة الـخَلْقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخَلْق على الخُلُق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة اللَّـه، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره، وبسعة الصدر، وبُعْد ما بين جانبيه على سعة خُلق صاحبه، واحتماله، وبسطته، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه، وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة -وهو الشَّكَل- على شجاعته، وإقدامه، وفطنته، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته، ومكره، وخداعه. ومعظم تعلق الفراسة بالعين ؛ فإنها مرآة القلب، وعنوان ما فيه، ثم باللسان؛ فإنه رسوله وترجمانه. وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته، وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته، وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة، وبإفراطه في الجعودة على الشر، وباعتداله على اعتدال صاحبه.
وأصل هذه الفراسة أن اعتدال الخِلْقَةِ والصورة هو من اعتدال المزاج والروح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال، هذا إذا خُلِّيَتِ النفسُ وطبيعتها…
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه، وأذنه، وقلبه. فعينُه للسيماء والعلامات. وأذُنه للكلام، وتصريحه وتعريضه، ومنطوقه ومفهومه، وفحواه وإشارته، ولحنه وإيمائه، ونحو ذلك. و قلبُه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه، فيَعْبُر إلى ما وراء ظاهره، كعبور النَّقَادِ من ظاهر النقش والسِّكة إلى باطن النقد، و الاطلاع عليه، هل هو صحيح أو زغل، وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة و الدَّل إلى باطن الروح والقلب، فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصَّيْـرَفِي، ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد…
وللفراسة سببان:
أحدهــما: جودة ذهن المتفرس، وحِدَّةُ قلبه، وحسن فطنته.
والثــــاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرَّس فيه. فإذا اجتمع السببان، لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر كانت فراسته بَيْنَ بَيْنَ.
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة، وله الوقائع المشهورة، وكذلك الشافعي - رحمه اللَّـه- وقيل: إن له فيها تآليف. ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّـه - أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سِفرا ضخـما… إلى آخر كلام ابن القيم في «مدارج السالكين» .